منذ الإعلان عن “ديمقراطية القماش”، في مستهل تسعينات القرن الماضي إلى غاية فاتح أغشت 2019، لم تخل يوميات الصحافة الورقية من مصادرة عدد، ولم تخل السجون من نزيل رأي، ولم تخل الشوارع من احتجاجات وصدامات ومسيلات دم ودموع.
على مدى هذه الفترة التي ناهزت الثلاثين سنة، لم تجد الدولة وقتا لتنفيذ أي مشروع طموح لأن أموال الشعب وُجهت إلى متابعة المعارضين، والتجسس على حركتهم وعلاقاتهم، والتنصت لمكالماتهم، وشراء ضمائر بعضهم. كان الجو قاتما، يسوده التشنج السياسي والعرقي والفئوي. لا وقت لوضع التصورات الجادة، ولا مكان لتنفيذ السياسات الإصلاحية. وهكذا بقي التعليم جيفة أزكمت رائحتُها كل الآمال، وظل الاقتصاد لعبة في يد أبناء الطبقات المخملية الذين تبرجزوا على عاتق الثروة الوطنية والتمويلات الأجنبية، ولم تكن الصحة غير مكب للفيروسات اللعينة، وهكذا أصبحت موريتانيا مضرب المثل في غياب الاستقرار لدرجة جعلت المستثمرين يهابون حتى العبور من أجوائها. إنها دولة البوليس، والمحاضر السرية، وهراوات الدرك، وزنزانات الظلم والجبروت. دولة جل سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد وزارة الداخلية وإدارة الأمن، والنزر الباقي بيد الرؤساء.
لقد وصلت البلاد مرحلة من التدهور والإحباط جعلت الخيارات أمامها محدودة، فإما أن تتفكك أو أن تراجع نفسها. ورغم صعوبة الوضع الموروث عن عقود من التراكمات المميتة، ورغم التحديات الكثيرة التي انضافت إليها جائحة كورونا وتداعياتها المتشعبة، صمم رئيس الجمهورية، محمد ولد الشيخ الغزواني، على تجريب الخيار الثاني المتعلق بمراجعة الوضع كليا. كان عليه، وبموازاة مع علاج تداعيات الجائحة، أن يبدأ بتنظيف الساحة الموريتانية من بؤر عدم الاستقرار والاحتقان والتشنج السياسي والحقوقي والعرقي والفئوي. لأن وضع وتنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية مرهون بالاستقرار والقضاء على حالة الاحتقان، ولأن الاستقرار والقضاء على حالة الاحتقان شرط أساسي لتحويل الأموال الطائلة، الموجهة إلى التجسس والمتابعات والتنصت، إلى مشاريع تنموية وإنمائية. وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال “سياسة التهدئة” التي اعتمدها الرئيس والتي آتت أكلها إذ باتت الصحافة في منأى عن المضايقات، وأصبحت السجون خالية من السياسيين والحقوقيين، وأصبحت الشوارع خالية من المظاهرات والاحتجاجات ومسيلات الدموع. وقد تمكن رئيس الجمهورية من ذلك بفضل تواصله المستمر مع قادة المعارضة ورموز العمل الحقوقي وأصحاب الرأي من كل الأعراق والفئات. وتمكن منه أيضا من خلال خطاباته غير المسبوقة، في ودان وغيرها، حول نبذ الكراهية والشرائحية والدونية الفئوية. كما أن اعتراف البلاد بالرق لأول مرة، وفي عهده هو بالذات، أعطى نتائج إيجابية جدا في خفض مؤشر التوتر والمضي في حل الإشكالات القانونية والاجتماعية المتعلقة بالعبودية، بالإضافة إلى تخصيصه مبالغَ هائلة للترقية الاجتماعية ومحاربة الفقر من خلال هيئات مثل “تآزر”.
لم يكن بالإمكان إجراء أي إصلاحات كبيرة قبل تهدئة الوضع، كان على النظام أن يكتفي بالمحافظة على كيان الدولة، وعلى أمن الحدود وتأمين المواطنين، ودفع الرواتب، وتسيير العلاقات الثنائية، ومواصلة الشراكة مع الهيئات الدولية، بما يضمن بقاء البلاد في انتظار إنجاح التهدئة التامة لأنها شرط لانطلاق كل السياسات الاقتصادية والتنموية. اليوم، وبعد نجاح التهدئة، أصبح من حق المواطن، من الآن فصاعدا، وفقط من الآن فصاعدا، أن يتطلع إلى الفصل الثاني الحاسم من “الرؤية الغزوانية”، ألا وهو الإصلاحات الكبيرة على مستوى الاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة والبنية التحتية.
غير أننا لاحظنا، منذ أشهر، أنه ثمة أصوات نشاز تقوم بحملة غير منصفة وغير بريئة ضد بعض أقطاب هذه التهدئة، خاصة النائب بيرام الداه اعبيد. ورغم أن هذه الأصوات تدعي أنها تؤازر وتدعم الرئيس غزواني، فإنها تحاول، عن قصد أو عن سوء تقدير، تقويض التهدئة، وبالتالي الوقوف أمام الفصل الثاني من سياسات الرئيس، وهو الجزء الأهم من مأموريته.
إن التحامل على النائب بيرام، واستفزاز مناصريه وتياره الانعتاقي، وتحريض النظام ضده ليس له من هدف، واضح أو خفي، إلا قطع علاقاته بالرئيس غزواني وإعادة البلاد إلى “مربع العشرية”، ومن ثم الاعتقالات والاحتجاجات والتطاحنات المراد بها إرجاع أموال الدولة إلى “صندوق المتابعات والتجسس والتنصت” الذي تستفيد منه زمر وجماعات لا تعيش إلا من خلال أجواء التأزيم والتأزم. وبالتالي قطع الطريق أمام الإصلاحات الكبيرة المنتظرة في المرحلة القادمة.
إن على هؤلاء المحرضين أن يفهموا أن النظام لا يمكنه أن يطلب من النائب بيرام أن يصمت تماما وأن يختفي نهائيا من المشهد، لأن من حقه، كشريك استراتيجي للرئيس غزواني، أن يقيّم الوضع إيجابيا تارة، لكن أيضا يظل من حقه، كمعارض، أن يقيّم الوضع سلبيا إذا رأى ضرورة في ذلك. فالنائب بيرام ليس عضوا في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، كما أنه ليس ضمن أحزاب الموالاة، وبالتالي ليس من الإنصاف ولا من الحكمة أن يرغمه أي أحد على التخلي عن جميع مواقفه ورؤاه، فالتقييم الإيجابي المستمر، في كل شيء وعلى طول الخط، يعني الانضمام نهائيا إلى المولاة أو الحزب الحاكم، بيد أن النائب بيرام يظل جزءا من المعارضة له رؤيته الخاصة وتقييماته الخاصة ومواقفه المستقلة عن الأغلبية، كما أن محاولة إرغامه على مسايرة النظام في كل شيء ليس واردا لأنه لا يخدم الديمقراطية، فالنظام الديمقراطي قائم على موالاة ومعارضة، ولولا المعارضة لكان النظام أحاديا وفرديا وتعسفيا.
من جانب آخر، يجب أن نتفهم الرئيس غزواني في تسييره الموفق السليم لعلاقته بالنائب بيرام، فهذا البرلماني يتزعم، منذ ما ينيف على العقد، تيارا انعتاقيا قويا، كانت له الأسبقية في فرض قوانين جديدة على مستوى الترسانة الخاصة بالرق، وكان سباقا إلى تغيير الكثير من العقليات، كما كان له الدور الأبرز في لفت أنظار المجتمع الدولي حول معاناة الفئات الدنيا في موريتانيا، أضف إلى ذلك أنه استطاع أن يدخل قبة البرلمان من داخل زنزانة بالسجن ودون أية حملة دعائية منظمة، ما يعني أن فئات عريضة من الشعب باتت مقتنعة بمشروعه، هذا فضلا عن وصوله إلى المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي نافسه فيها أشخاص لهم وزن لا يستهان به. إذن، كان غزواني محقا في التواصل مع النائب بيرام، وغيره من قادة الرأي السياسي والحقوقي المعارض، من أجل تحقيق سياسة التهدئة، وكان محقا في اعتبار التهدئة مدخلا لا غنى عنه لإطلاق الإصلاحات الاقتصادية والتنموية، كما أنه كان محقا- حتى الآن على الأقل- في عدم إعطاء أية قيمة للحملات التي تحاول شيطنة بيرام وإفساد شراكته وعلاقته بمؤسسة الرئاسة.